منهج دراسة عصر الصحابة رضوان الله عليهم

لما كان صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم هم نقلة هذا الدين فقد توجهت إليهم سهام الزنادقة في كل عصر للنيل منهم.

وفي ذلك يقول أبو زرعة الرازي رحمه الله : ( إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن، أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، والجرح بهم أولى، وهم زنادقة).

كما تحدث الطحاوي – رحمه الله - عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : (وحبهم دين وإيمان وإحسان، وبغضهم كفر ونفاق وطغيان).

والنيل من الصحابة - رضوان الله عليهم – ليس مقصوداً لذاته فقط، بل إن الهدف الأهم لدى الزنادقة هو النيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن طريق الطعن في أصحابه – رضوان الله عليهم – وفي ذلك يقول مالك رحمه الله: ( إنما هؤلاء أقوام أرادوا القدح في النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يمكنهم ذلك، فقدحوا في أصحابه حتى يقال : رجل سوء، ولو كان رجلاً صالحاً لكان أصحابه صالحين).

هذا وتعد كتب التاريخ والأدب أوسع باب دخل منه أعداء الإسلام للنيل من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد ساعدهم في تنفيذ مآربهم ذلك الكم الهائل من الروايات الضعيفة والمكذوبة المنتشرة في المصادر التاريخية والأدبية عن عصر الصحابة - رضوان الله عليهم.

من أجل ذلك كله وجدت أن أفضل منهج لدراسة عصر الصحابة – رضوان الله عليهم – هو المنهج النقدي لدى المحدثين – رحمهم الله – لكونه يجمع بين الضوابط الشرعية والمنهجية العلمية، هذا مع الاستفادة في الوقت نفسه من منهج النقد التاريخي.

وعلى أية حال، ومن دون الدخول في تفاصيل علمية جافة، فإنه يمكن تلخيص الخطوط العريضة لهذا المنهج بالنقاط التالية:

أولاً : وهي نقطة مهمة ينبغي للمسلم أن يتنبه لها في كل عمل من أعماله، ألا وهي : إخلاص النية لله سبحانه وتعالى، إذ ببركة الإخلاص يفتح الله سبحانه وتعالى على العبد كثيراً من الأمور التي تستغلق عليه.

ثانياً : معرفة أن المصادر التاريخية أشبه ما تكون بالمواد الخام التي تحتاج إلى التكرير والتصفية قبل الاستفادة منها، وذلك أن مؤلفيها لم يشترطوا الصحة فيما يدونونه من أخبار، بل ساروا في عملية التدوين على منهج الجمع، فجمعوا في كتبهم الغث والسمين من الأخبار، وهذه النقطة مع الأسف تجاهلها كثير من الباحثين المعاصرين، وراحوا يتعاملون مع المصادر التاريخية وما فيها من نصوص على أنها من المسلمات، وهذا بلا شك انعكس بدوره على النتائج التي توصلوا إليها في أبحاثهم.

فالإمام الطبري – رحمه الله – على سبيل المثال قد سار في تاريخه على منهج الجمع فقيد في تاريخه الغث والسمين من الأخبار، دون اشتراط الصحة في ذلك، بل إنه – رحمه الله - قد أشار إلى هذه المسألة في مقدمته حيث قال : ( فما يكن في كتابي من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارؤه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجهاً في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم أنه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتي من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا).

إن الاعتماد على مجرد النقل من المصادر دون نقد، أو تمحيص أمر لا تحمد عقباه، لذا فقد حذر منه العلماء، وفي ذلك يقول ابن خلدون – رحمه الله : ( وكثيراً ما وقع للمؤرخين والمفسرين وأئمة النقل، من المغالط في الحكايات والوقائع، لاعتمادهم فيها على مجرد النقل غثاً أو سميناً).

والنقل من المصادر التاريخية دون نقد أو تمحيص آفة كثير من البحوث، وسببه عدم مراعاة المنهج العلمي في التعامل مع النصوص التاريخية، وفي ذلك يقول ابن خلدون – رحمه الله : ( أما بعد، فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداوله الأمم والأجيال... وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال، وتتنافس فيه الملوك والأقيال ... إذ هو في ظاهره لا يزيد على أخبار عن الأيام والدول، والسوابق من القرون الأول، تنمو فيها الأقوال، وتضرب فيها الأمثال، وتطرف بها الأندية إذا غصها الاحتفال، وتؤدي لنا شأن الخليقة كيف تقلبت بها الأحوال، واتسع للدول فيها النطاق والمجال، وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال، وحان منهم الزوال، وفي باطنه نظر وتحقيق، وتعليل للكائنات ومبادئها دقيق، وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق، فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق، وجدير بأن يعد في علومها وخليق).

ثالثاً : دراسة ميول مؤلفي المصادر ومعرفة توجهاتهم العقدية، لما لذلك من تأثير في مصداقية ما ينقلونه من أخبار.

رابعاً : فيما يتعلق بالروايات المسندة فإنه من الأهمية بمكان دراسة رجال إسناد كل رواية ومعرفة أحوالهم جرحاً وتعديلاً، وذلك إن ميول الرواة، سواء منها : القبلية، أو السياسية، أو العقدية، تؤثر بلا شك على مصداقية ما ينقلونه من أخبار؛ وفي ذلك يقول محمد بن سيرين – رحمه الله - : (إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم).

كما تحدث عبد الله بن المبارك - رحمه الله - عن أهمية الإسناد فقال : (الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء).

وهنا يجدر التنبيه على أن المحدثين قد وضعوا معايير علمية دقيقة في تجريح أو تعديل الرواة، مراعين في ذلك طبيعة الخبر المروي، وميول راوي الخبر.

خامساً: فيما يتعلق بمتن الراوية، مسندة كانت أم غير مسندة، فينبغي مراعاة الأمور التالية :

1- خلو النص من المخالفات العقدية والشرعية.

2- خلو النص من الأمور القادحة بعدالة الصحابة – رضوان الله عليهم – وذلك لثبوت عدالتهم في الكتاب والسنة. وعن عدالة الصحابة – رضي الله عنهم – يقول الخطيب البغدادي – رحمه الله : (على أنه لو لم يرد من الله عز وجل ورسوله فيهم شيء، لأوجبت الحال التي كانوا عليها، من الهجرة والجهاد والنصرة، وبذل المهج والأموال، وقتل الآباء والأولاد، والمناصحة في الدين، وقوة الإيمان واليقين، القطع على عدالتهم، والاعتقاد بنزاهتهم، وأنهم أفضل من جميع المعدلين، والمزكين، الذين يجيئون بعدهم أبد الآبدين، هذا مذهب كافة العلماء، ومن يعتد بقوله من الفقهاء).

كما تحدث الذهبي – رحمه الله - عن عدالتهم فقال : ( فأما الصحابة – رضي الله عنه – فبساطهم مطوي، وإن جرى ما جرى، إذ على عدالتهم، وقبول ما نقوله العمل، وبه ندين الله تعالى).

3- إن مجتمع الصحابة – رضوان الله عليهم – وهو خير القرون كما أخبر بذلك المصطفى صلى الله عليه وسلم، وهو المجتمع الذي تخرج من مدرسة النبوة، لذا فإن أحوال ذلك المجتمع ما هي إلا انعكاس لأخلاقيات صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا أول المخاطبين بقوله تعالى : (كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله).

أما من ينظر إلى ذلك المجتمع من خلال كتب الأدب فقد ظلم نفسه، وظلم معها صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم، الذين اصطفاهم الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيه صلى الله عليه وسلم.

وحتى يعلم القراء الكرام بحجم جناية بعض كتب الأدب على مجتمع الصحابة - رضوان الله عليهم – فإني أحيلهم إلى الرسالة العلمية الجادة التي ألفها د.عبدالله الخلف، والموسومة ب ( مجتمع الحجاز في العصر الأموي بين الآثار الأدبية والمصادر التاريخية). وهي رسالة دكتوراه من جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية .

سادساً : الاستعانة بالأدلة العقلية لرفع الظلم عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم .

سابعاً : اعتماد كتب السنة مصدراً أساسياً لدراسة عصر الصحابة – رضوان الله عليهم – وذلك لاحتوائها على عشرات النصوص التاريخية التي يندر وجودها في كتب التاريخ، وهذه الخطوة بالرغم من توسيعها لقاعدة المصادر، فقد غفل عنها كثير من الباحثين المعاصرين، وهذا بدوره قد انعكس سلباً على مستوى أبحاثهم.