الصحابة تحت مجهر القرآن والسنة

اختار الله سبحانه وتعالى لصحبة نبيه الخاتم والإيمان به خير أصحاب الأنبياء ديناً وجهاداً، وعلماً وتقوى فكانوا أنصاره والمجاهدين في سبيل الله، قدموا أنفسهم وأموالهم في سبيل الله، وأذلَّ الله بهم دول الكفر كلها في سنوات قليلة ومكن لهم في الأرض، ونشر بهم الإسلام في عامة المعمورة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، وتحولت شعوب كثيرة إلى الإسلام في زمن قياسي، ولم يحدث هذا لنبي صلى الله عليه وسلم قبل رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم.

قال تعالى: ((هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ  وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ))[الأنفال:62،63]

وقد أثنى الله سبحانه وتعالى على إيمانهم وجهادهم وإحسانهم في آيات كثيرة من كتابه منها قوله تعالى: {آمن الرسول بما أنزل إليه من ربه والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله، لا نفرق بين أحد من رسله، وقالوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير} (البقرة:285).. فشهد لهم بالإيمان مع الرسول صلى الله عليه وسلم..

وقال: (( مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمْ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً ))[الفتح:29]^.

وهذه الآية من أعظم المدح لهم والشهادة لهم بالإيمان وإخلاص الدين لله، وأنهم أشداء على الكفار رحماء بينهم وأنهم أهل طاعة وصلاة، وأنهم ممدوحون بذلك في التوراة والإنجيل، وأن أوائلهم هم بذرة الدين، ونبتة الإسلام التي كبرت وتفرعت حتى أصبحت شجرة الإسلام قوية باسقةً تستعصي على الرياح {يعجب الزراع ليغيظ بهم الكفار} (الفتح:29)..

ومن ذلك أيضاً قوله تعالى: (( لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنْ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً ))[الفتح:18]^ وهذه الآية نزلت في غزوة الحديبية، وكان الصحابة فيها ألفاً وأربعمائة رجل.

وقال تعالى: {لقد تاب الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه في ساعة العسرة من بعد ما كاد يزيغ قلوب فريق منهم ثم تاب عليهم إنه بهم رؤوف رحيم} (التوبة:117)

وهذه الآية نزلت في غزوة تبوك وكانوا ثلاثين ألفاً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونزل على الرسول وهو في حجة الوداع في أعظم حشد تجمع له وكانوا أكثر من مائة ألف قول الله تبارك وتعالى: (( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلامَ دِيناً))[المائدة:3]

فهؤلاء الأصحاب الأطهار الأبرار سادة هذه الأمة وعنوان مجدها، وسر خلودها، ونموذجها الفريد في الإيمان والجهاد والعمل الصالح، وهم أسوة الأمة وقدوتها، ومنبعها الذي لا ينضب من المُثُل والعطاء والخير...

ولكل منهم من المناقب والفضل والسابقة ما هو محل القدوة والأسوة، ففيهم الذي انفق ماله كله في سبيل الله، وفيهم الذي قتل أباه في الله، وفيهم الذي آثر ضيفه على نفسه، وأهله، وعياله، حتى عجب الرب من صنيعه من فوق سبع سمواته، وفيهم الأبطال الصناديد فرسان الحروب، وفيهم رهبان الليل، فرسان النهار، وكلهم قد تحمل في سبيل الله ما لم تتحمله الجبال، وكلهم كان يفتدي الرسول بأبويه ونفسه وماله، وقد عظموا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحبوه كما لم يُعظَّم عظيم قط أو يحب، ولم ينصر أتباع رسول رسولهم كما نصر أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم محمداً صلى الله عليه وسلم.. ومناقبهم وفضائلهم أكثر من أن تحصر.

وقد أحبهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان أبو بكر الصديق أحب أصحابه إليه، وقال فيه:{لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً ولكنه أخي وصاحبي وقد اتخذ الله صاحبكم خليلاً }

(رواه مسلم)..

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو لهم، ويواسيهم ويزور مريضهم، ويتبع جنائزهم، ويسعى في حاجاتهم ويصلح بين المتخاصمين منهم، ويحوطهم كما يحوط الأب أبناءه وأعظم. كيف وهو في الكتاب أولى بكل مؤمن من نفسه وهو أب لهم (( النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً ))[الأحزاب:6]^ وهو أب لهم -قراءة-..

وكان منهم بطانته وخاصته الذين يطلعهم على أسراره، ويشاورهم في أموره، فلا يخرج إلا وهو معهم، ولا يدخل إلا وهم معه، ولم يفارقوه في موقف شدة قط.. وأول هؤلاء هو الصديق الصادق، وأخو النبي في الدين وقريبه في النسب، تزوج رسول الله ابنته فكانت أفضل زوجاته، وأحب الناس جميعاً إليه كما قال صلى الله عليه وسلم عندما سئل: {من أحبُّ الناس إليك؟ قال: عائشة.. قال من الرجال؟ قال: أبوها } (متفق عليه)

ولم يمت رسول الله إلا ورأسه مسند إلى صدرها رضي الله عنها وأرضاها...

وفي هذه الزوجة وسائر زوجاته الطاهرات المطهرات نزل قول الله تعالى: (( وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمْ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً  وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً ))[الأحزاب:33،34]

ولما بشرهم الله سبحانه وتعالى برضوانه، وتوبته عليهم، وشهد لهم بالإيمان والإحسان كان هذا بشرى لهم بالجنة كذلك. قال تعالى: (( وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنْ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ))[التوبة:100].

وبشر الرسول صلى الله عليه وسلم رجالاً منهم بأعيانهم بالجنة فقال: {عشرة في الجنة: النبي في الجنة، وأبو بكر في الجنة، وعمر في الجنة، وعثمان في الجنة، وعلي في الجنة وطلحة في الجنة، والزبير بن العوام في الجنة، وسعد بن مالك في الجنة، وعبدالرحمن بن عوف في الجنة، وسعيد بن زيد في الجنة } (رواه أحمد وأبو داود وصححه الألباني في صحيح الجامع (4010))

وقال صلى الله عليه وسلم: {لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة } ( رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع (7680))

ولا شك أن من أخبر الله سبحانه وتعالى أنه رضى عنهم فهم من أهل الجنة، ولا يمكن أن يكون من أعلن رضاه عنهم أنهم يرتدون ويكفرون...

* موقف المؤمن من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم:

ومن أجل هذا الفضل والإيمان والإحسان الذي كان لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أوجب الله على كل مسلم يأتي بعدهم أن يعترف بفضلهم وأن يدعو الله لهم بالمغفرة: (( وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ))[الحشر:10].

وأن يحبهم ويواليهم: (( إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ  وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمْ الْغَالِبُونَ ))[المائدة:55، 56].

وأن يعترف أنه لم يصبح مسلماً إلا بفضل جهادهم وفتوحهم (ولا يشكر الله من لا يشكر الناس)

وأن يأتسي بهم في جهادهم وصبرهم كما أرشدنا الله إلى ذلك حيث قال سبحانه في بيان صبر الرسول صلى الله عليه وسلم وصبرهم في غزوة الخندق: (( لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً  وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً ))[الأحزاب:21- 23].

وفي هذه الآيات رفع الله من شأن نبيه صلى الله عليه وسلم وأصحابه الصادقين، وأبان الصورة العظيمة التي كان عليها النبي صلى الله عليه وسلم في هذه الغزوة العصيبة من الصبر والإيمان والتوكل، فقد ربط صلى الله عليه وسلم الحجر على بطنه من الجوع وكان ينقل التراب من الخندق، ويحفر مع أصحابه وكان واثقاً من نصر الله ثابت القلب بالرغم من تألب الأحزاب واجتماعهم جميعاً -قريش وغطفان وقريظة-... وثبت مع رسول الله أهل الإيمان واليقين الذين وصفهم الله بقوله: (( مِنْ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ))[الأحزاب:23] وقد عاهدوه على نصر رسوله والموت في سبيله.

وما ذكر الله لنا هذا إلا ليكون هؤلاء الأصحاب الأطهار الأقوياء في الدين قدوة لنا وأسوة، وأن نحبهم ونجلهم، ونثني على جهادهم وصبرهم.

* الصحابة أسوة في العلم كما هم أسوة في الجهاد:

ولا شك أنهم كانوا في العلم واليقين والفهم الصحيح للدين كما كانوا في الجهاد والبذل.. فكما أثنى الله سبحانه على جهادهم وصبرهم، أثنى على إيمانهم وإحسانهم وعبادتهم، ولا غرو فقد كانوا هم الفوج الأول الذي تلقى التعليم والتربية من فم الرسول صلى الله عليه وسلم، وكانت القدوة المثلى، والمثل الكامل ماثلاً أمامهم ليس بينهم واسطة. فهذا رسول الله الإنسان الكامل، والقدوة المثلى أمامهم، يتلو عليهم الكتاب ويبينه لهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم ويربيهم بالأسوة والموعظة الحسنة، ولفت النظر، والهجر والزجر أحياناً، ولا يقر أحداً منهم على باطل، ويختار فريقاً منهم فيوجب عليهم ما ليس واجباً على العامة ليحوزوا قَصَبَ السَّبْق، ويكونوا مثلاً لمن وراءهم كما أخذ على بعضهم ألا يسأل الناس شيئاً فكان إذا وقع السوط منه وهو على بعيره لا يسأل أحداً أن يناوله إياه.. وكل ذلك ليخرج منهم جبلاً يكون مثلاً لكل الأجيال في العلم والعمل والجهاد والصبر.

وبث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كل ما يحتاجونه من علم كما قال أبو ذر: {ما مات رسول الله وفي الأرض من طائر يطير بجناحيه إلا عندنا علم منه}..

ولم يكتم عنهم شيئاً من الدين، فكانوا بهذا كله كما قال ابن مسعود رضي الله عنه: "أولئك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أبر الناس قلوباً وأعمقهم علماً وأقلهم تكلفاً".

ومن أجل ذلك كله كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الجيل المثالي الذي يجب أن تحتذيه كل أجيال الأمة في الإيمان،والجهاد، والعمل، والعلم، وأن يقدم تفسيرهم للكتاب والسنة على كل تفسير، وأن كل ما جاء مخالفاً لما قالوه فليس من الهدى والدين، فما لم يعرفه أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم من الدين فلا شك أنه ليس ديناً..

ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث العرباض بن سارية: {أوصيكم بتقوى الله، والسمع والطاعة، وأن تأمر عليكم عبد حبشي، فإنه من يعش منكم بعدي فسيرى اختلافاً كثيراً فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين، تمسكوا بها، وعضوا عليها بالنواجذ، وإياكم ومحدثات الأمور، فإن كل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة } (رواه أحمد وأبو داود والترمذي وصححه الألباني في صحيح الجامع (2549))

ولا شك أن أفضلهم بإطلاق هو أبو بكر الصديق ثم عمر بن الخطاب، ثم عثمان بن عفان، ثم علي بن أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وفضلهم كترتيبهم في الخلافة.